الثلاثاء، 10 مارس 2015

نشر المحبة والسرور

نشر المحبة والسرور


الإنسان مدنيٌّ بطبعه، خلقه الله اجتماعيًّا، مُحتاجًا إلى الناس في طعامه وشرابه، وملبَسه ومسكنه، ومركَبه وفي شأنه كلِّه؛ زراعةً وتجارةً، وتعليمًا وعلاجًا وصناعةً، وما لا يُحصَى من الحاجات والعلاقات، وترابُط المصالِح.


ومن أجل هذا؛ فإن أخلاق الإنسان وحُسن طبائعه لا تظهرُ إلا من خلال علاقاته بمن حولَه من الأقرباء والأصدقاء والغُرباء. أما الانزِواء فليس من صِفات الإنسان السوِيِّ، فضلاً عن المؤمن الصالح،
وفي الحديث: «المُسلمُ الذي يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالِطُهم ولا يصبِرُ على أذاهم»؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
وفي حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -: «وأحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم، وأحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخِلُه على قلبِ مُسلم».
بل لقد سُئِل النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: «إدخالُ السرور على مؤمن، أو أن تُشبِع جوعتَه، أو أن تستُرَ عورتَه»؛ رواه الطبراني من حديث عمر، وإسنادُه حسنٌ لغيره.
ويقول الإمام مالكٌ – رحمه الله – وقد سُئِل: أيُّ الأعمال تحبُّ؟ قال: “إدخالُ السرور على المسلمين”.
المُسلِمون كالجسَد الواحد، إذا اشتكَى بعضُه اشتكَى كلُّه، وإذا فرِحَ بعضُه فرِحَ كلُّه .. المسلمُ يفرحُ لفرح أخيه، ويُشارِكُه سُرورَه وابتِهاجَه، كما أنه يحزَنُ لحُزنه، ويُصبِّرُه ويُواسِيه.
وها هي الأيام تمر على أمتنا وهي في أنحاء كثيرة تمُرُّ بأزماتٍ ومِحَنٍ ومصائِب وفتنٍ، تكالَبَ عليها أعداؤُها، وأجلَبَ عليها بعضُ أبنائِها. فما أحوجَ هؤلاء المُبتلَين للمُواساة، وإدخال السرور، وجلب المُفرِحات، وليُسعِد النُّطق كما يُسعِد الحال؛ من يتامَى وأرامِل، ومُشرَّدين، وغُرباء، ولاجِئين، وفُقراء ومساكين، ومُستضعَفين.
ومُدخِلاتُ السرور وجالِباتُ البهجة لا تقعُ تحت حصرٍ، فليس المالُ وحده هو جالِبَ السرور، وزارِعَ البهجة؛ بل أبوابُ الإحسان واسِعة؛ من القول الحسن، والفعل الجميل، والخُلُق الكريم، والمُشاركة الوجدانية.
إنها أبوابٌ واسعة بقدر اتِّساع نعَم الله التي لا تُحصَى، فهي كلُّها ميادين للفرح والسرور وللابتِهاج.
وأولُ جالِبات السرور وأولاها أولها: تحقيقُ التوحيد، والإيمان بالله، وحُسن الاعتماد عليه، والتوكُّل عليه، وتفويضُ الأمور إليه، وأن يُوطِّدَ المرءُ نفسَه ألا يتعلَّقَ بالناس، ولا ينتظِرَ منهم جزاءً ولا شُكورًا، مع عُمران القلب واللسان بذِكره، والتفكُّر في نعمه وآلائِه التي لا تُحصَى، والتحدُّث بهذه النِّعم ظاهرًا وباطنًا.
ومن جالِبات السرور: إظهار الفرح والابتِهاج أثناء اللقاء بالإخوان، وتجنُّب العُبوس والتقطِيب؛ فتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة.
الابتِسامةُ – حفظك الله – لا تتنافَى مع الوقار، ولا الخشوع، ولا حُسن التعبُّد. فهذا أيوب السختياني – رحمه الله – كان بكَّاءً في الليل، بسَّامًا في النهار، قال عنه أصحابُه: ما رأينا أحدًا أكثرَ تبسُّمًا في وجوه الرجال منه. فالابتِسامة مما يُدخِلُ السرور، وينشُر عبقَ الفرحة، ويُلطِّفُ الأجواء، وينزِعُ أكدارَ الكآبَة.
وقد قال – عليه الصلاة والسلام -: «إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالِكم، فليسَعهُم منكم بسطُ الوجه وحُسن الخُلُق».
والإمام الذهبيُّ يقول: “هذا هو خُلُق الإسلام؛ فأعلى المقامات: من كان بكَّاءً بالليل، بسَّامًا بالنهار”.
وقال: “ينبغي لمن كان عبوسًا مُنقبِضًا أن يبتسِمَ، ويُحسِّن خُلُقَه، ويمقُتَ نفسَه على رداءَة خُلُقه”.
كيف – بارك الله فيكم – إذا صاحبَ الابتسامةَ كلمةٌ طيبةٌ؟! فالكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ .
ويدخلُ في ذلك – بارك الله فيكم -: تركُ المُفاصَلة والاستِقصاء في البيع مع أصحابِ المحلاَّت الصغيرة، بقصد إدخال السرور عليهم، والتنازُل عن بعضِ الدُّرَيهمات من أجل هذا الغرضِ النَّبيل.
فابتسِموا – رحمكم الله -، وانشُروا الابتِسامة، وأظهِرُوا مشاعِرَكم السَّارَّة.
ومما يجلِبُ السرورَ: التهنئةُ، فهي مُشاركةٌ بالدعاء والتبريك بما يسُرُّ أخاك ويُرضِيه، وفيه من التوادِّ والتراحُم والتعاطُف ما لا يخفَى.
التهنئةُ محبَّةٌ من القلب، وسلامةٌ في الصدر، وبُعدٌ عن الحسَد، ومُشاركةٌ في فرح للنعمة التي حصلَت لأخيك من نجاحٍ، وسلامةٍ، وربحٍ، وتحصيلِ عملٍ، ورزقٍ بمولودٍ، ومنزلٍ جديدٍ، ومُناسباتٍ له سعيدة.
وعند الطبراني في “مسند الشاميين”، والخرائطيِّ في “مكارم الأخلاق” عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «أتدرُون ما حقُّ الجار؟ إن استعانَ بك أعنتَه، وإن استقرضَك أقرضتَه، إن أصابَه خيرٌ هنَّأتَه، وإن أصابَته مُصيبةٌ عزَّيتَه ..» الحديث.
ومن أظهر المُناسبات التي ينبغي أن تفشُو فيها التهنئة: مناسبتُكم هذه، مناسبةُ عيد الفِطر السعيد. فهنيئًا لكم عيدكم، وتقبَّل الله صيامَكم، وأعادَه على أمتِنا بالعزِّ والنصر والتمكين.
يقول محمد بن زياد: كنت مع أبي أُمامة الباهليِّ وغيره من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، فكانوا إذا رجَعوا من العيد يقول بعضُهم لبعضٍ: “تقبَّل الله منا ومنك”؛ قال أحمد: “إسنادُ حديث أبي أُمامة جيِّدٌ”.
وعن جُبير بن نُفَير قال: كان أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا التقَوا يوم العيد يقول بعضُهم لبعضٍ: “تقبَّل الله منا ومنكم”؛ وإسنادُه حسن.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً.
ومن أعظم ما يجلِبُ السُّرور: تبادُلُ الهدايا، فتهادَوا تحابُّوا. فالهديَّةُ تُوثِّقُ العلاقات، وتنزِعُ سخائِم الصدور.
جِيءَ إلى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يومًا بثوبٍ له أعلام – أي: خطوط -، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «أين أمُّ خالد؟» – وهي طفلةٌ صغيرة، بنتٌ لأبي العاص، كانت قد وُلِدت في الحبشة -، فجِيءَ بالصبيَّة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فجعل يُلبِسُها الثوب، وهي تنظُرُ إلى أعلامه وإلى الثوب فرحةً مسرورةً، فلما ألبسَها الثوب جعل يُشيرُ إلى أعلام الثوب – يعني: الخطوط المُلوَّنة -، ويقول: «هذا سَنَا يا أمَّ خالد، هذا سَنَا يا أمَّ خالد» – أي: جميل بلغة الحبشة -.
بأبي هو وأمي – عليه الصلاة والسلام -. كلُّه من أجل إدخال السرور على هذه الطفلة الصغيرة، ومُشاركتها في مشاعِرها الطفوليَّة الصغيرة.
ومرَّ بعضُ السلف على أطفالٍ يلعبون، فمضَى واشترَى جوزًا – وهو نوعٌ من الحلوَى -، فجعل يُوزِّعُه على الأطفال، ثم مضَى. فقيل له في ذلك، فقال: “أكسبُ أجرًا، وأُدخِلُ سرورًا، ويُفرِحُهم مالٌ يسير”.
ومما يجلِبُ السرور: إجابةُ دعوة أخيك، وزيارتُه، وتفقُّده بالسؤال عنه هاتفيًّا، أو حضوريًّا، أو كتابيًّا، ومُشاركتُه في أفراحِه ومناسباته، وتبادُل المِزاح والطرائف؛ فالمِزاحُ خيرٌ من تصنُّع الرذالَة والثِّقَل.
بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكُن يستأثِرُ بالفرح وحده، وإنما كان يسعَى ليُشرِك أصحابَه في فرحِه؛ فقد جاء في حديثِ الدجَّال قولُه – صلى الله عليه وسلم -: «ولكنَّ تميمًا أتاني فأخبرَني خبرًا منعَني القيلُولَة من الفرح وقُرَّة العين، فأحببتُ أن أنشُرَ عليكم فرحَ نبيِّكم».
بأبي هو وأمي – عليه الصلاة والسلام -.
ومما ينشُرُ الوُدَّ ويجلِبُ السرورَ – أيها الأحبَّة -: إلقاءُ التحية، وإفشاءُ السلام، والبشاشةُ في الوجه، والمُصافحة، والمُعانقَة، ودعوةُ أخيك بأحبِّ الأسماء إليه.
الحياةُ – حفظكم الله – بين المُحبِّين جميلة، ولو غشاها الفقرُ والفاقة.
ولا تنسَوا قضاء الحوائِج، والإحسانَ إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف، فذلكم من أعظم ما يُستجلَبُ به السرور، ويُدفعُ به الهموم والغموم؛ تقضِي له دَينًا، وتُنفِّس له كربًا، وتُيسِّر على مُعسِر، تُواسِيه وتُسلِيه.
وفي الحديث: «لئن أمشِي مع أخي في حاجته حتى أُثبِتَها له أحبُّ إليَّ من أن أعتكِفَ في مسجدِي هذا شهرًا».
فالفرحُ والسرورُ وإدخالُهما على الإخوان مطلبٌ مشروع، وغايةٌ مُبتغاة، وهدفٌ منشود. وحقُّ كل إنسانٍ أن يسعَى إلى فرحِ قلبِه، وزوال همِّه وهمِّ إخوانه، وتبديد الأحزان، ودفن الآلام. إنه مطلبٌ كريمٌ، يحفظُ توازُنَ الفرد والمجموعة، حتى لا تطحنَهم الآلام برحاها.
فاجتهِدوا – حفظكم الله، وجعل كل أيامِكم سُرورًا وسعادةً -، اجتهِدوا في إدخال السرور على آبائِكم وأمهاتِكم وأبنائِكم وبناتِكم وإخوانكم وأخواتكم وأقاربكم الأقرب فالأقرب .
—————-
فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن حميد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق