الغلو في الدين معناه وبيان صوره وأسبابه وخطره
ظاهرة الغلو في الدين لها أسباب، ولها علاج.
أما أسبابها، فيمكن إجمالها نظرًا لضيق الوقت في سببين رئيسين ترجع إليهما كثير من الأسباب:
السبب الأول: هو الجهل، والتلقي عن أهل الجهل، وقد أشير أو أشار الله جل وعلا إلى هذا السبب في قوله سبحانه: { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ } [النساء: 171] فقرن بين النهي عن الغلو، والنهي عن القول على الله عز وجل بلا علم، فالقول على الله عز وجل بلا علم واتخاذ الرؤساء الجهال، الذين يفتون بغير علم هذا سبب عظيم من أسباب الغلو في الدين.
أيضًا من الأسباب السبب الثاني: هو اتباع الهوى، وهذا السبب أيضًا أشير إليه في قوله سبحانه: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة: 77] .
فانظر كيف قرن الله عز وجل بين النهي عن الغلو، والنهي عن اتباع أهواء الغالين، الذين يقودون الأتباع إلى الغلو، فاتباع الهوى من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الغلو؛ وذلك أن الشخص قد يكون عنده علم وعنده معرفة، ولكن اتباعه لهواه يصده عن العمل بمقتضى معرفته، فيكون كأنه لا يسمع، كما قال جل وعلا: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [القصص: 50].
أيها الإخوة أما بالنسبة للعلاج، فلعلي أوجز فيه أيضًا، فمن أعظم العلاج:
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، ومجانبة البدع والحذر منها، يقول الله عز وجل: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103] والاعتصام بحبل الله جميعا هو سبيل إلى اجتماع الأمة وعدم تفرقها.
وفي حديث ابن عباس قال رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس، إني تركت فيكم شيئين ما إن اعتصمتم بهما لن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسنتي».
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا» ما المخرج من هذا الاختلاف؟ «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة».
أيها الإخوة من الأسباب أيضًا أو من العلاج لهذه الظاهرة: لزوم الجماعة، والسمع والطاعة لولي الأمر في غير المعصية، وقد تقدمت أدلة تشير إلى ذلك، منها حديث العرباض بن سارية المتقدم، ومنها الآية: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]، وفي حديث عبد الله بن مسعود أيضًا يرفعه إلى رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم» رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، ومعنى يغل قال ابن الأثير هو من الخيانة، ويروى: يغل بالفتح، وهو الحقد، يعني: لا يدخله حقد يزيله عن الحق.
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: الاستعانة بالله جل وعلا؛ توكلا ودعاءً: أيها الإخوة كلنا نقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] يعني: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين على عبادتنا إلا بك، الإنسان في هذه الحياة الدنيا في أمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وإذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
ولهذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «إني أحبك» أوصاه بوصية محب، فماذا قال؟ «فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» فالإنسان حتى يستقيم على طاعة الله عز وجل ويتجنب مسلكي الإفراط والتفريط هو بأمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وهذا تضمنته سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] ثم: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] وهو لا غلو فيه ولا جفاء، ثم: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] وهم أهل الجفاء: اليهود، { وَلاَ الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7]. وهم أهل الجهل والنصارى الذين غلوا.
وهكذا المسلم يستشعر هذا المعنى عندما يقرأ هذه السورة العظيمة، فيعلم أنها علاج لكثير من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا اليوم، ومنها مشكلة الغلو.
ومن الاستعانة بالله عز وجل: الدعاء، كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم».
من الأسباب أيضًا: طلب العلم من أهله، والصدور عن رأي العلماء، لا سيما في القضايا العامة، طلب العلم سبب عظيم من أسباب عدم الوقوع في الغلو في الدين؛ لأن الغلو كما تقدم هو مجاوزة الحد الشرعي، فإذا عرفت حدود الشريعة صرت بمنأى عن مجاوزة تلك الحدود، فتعلم العلم الشرعي، واحرص على أن تأخذه من أهله المتحققين به، المعروفين باستقامة المنهج، ولا بد أن يصدر الأمة والشباب عن آراء علماء الأمة، لا سيما في القضايا العامة التي تمس واقع الأمة، كما قال الله جل وعلا: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: القيام بالمناصحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالطرق المشروعة، على جميع مستويات الأمة، وللغالين على وجه الخصوص، يقول ربنا جل وعلا: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104] ويقول سبحانه: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهاتان الآيتان تبينان أن المشروع هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكن على وجه لا يفرق الأمة، ولهذا نجد اقتران هاتين الآيتين: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ }. [آل عمران: 104-105] وفي الآية الأخرى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } يعني: بالجهاد، بالعلم، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أيضًا: { وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهذه الأمور حتى تكون على الوجه المشروع، وإذا كانت على الوجه المشروع فإنها تؤدي إلى اجتماع الأمة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تؤدي إلى تفريق الأمة.
أيها الإخوة أيضًا من الأمور التي تعالج فيها هذه الظاهرة: أن يترك الإنسان ما لا يعنيه، وألا يتصدى لما ليس له بأهل، لا سيما بالنسبة لقضايا الأمة العامة، وقد مر معنا ذكر الآية: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] ونبي الهدى صلوات ربي وسلامه عليه يرشدنا جميعًا إلى ترك ما لا يعنينا، فيقول صلى الله عليه وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وكثيرًا من الشباب يقعون في ألوان من الحديث، فيما لا يعرف من أمور الأمة العامة، وتكفير الأشخاص المعينين، ويقع بينهم نزاع واختلاف، ويحصل التباغض أحيانًا والتفرق والتحزب، بسبب الحديث في أشخاص مدحًا أو قدحًا.
والواقع أيها الإخوة أن الذي ينبغي للمسلم أن يعرف المنهج الحق، وأن يسير عليه، وأن يعتني بصلاح قلبه، وألا يشتغل بتكفير الأشخاص المعينين بغير برهان ولا حجة، فإن هذا مسلك غير محمود العاقبة.
القضايا العامة التي تعترض الأمة يتصدى لها أهل العلم، وأهل الحل والعقد، وولاة الأمور، بما مكنهم الله عز وجل من القدرة العلمية والسلطة، فهؤلاء يتصدون لمثل هذه القضايا، وأما عامة الناس وقليلو العلم، وقليلو التجربة، فليس لهم أن يتصدوا لتلك القضايا؛ لأنهم إن تصدوا لها وقعوا في كثير من الخطأ، وانشغلوا بذلك أيضًا عما يصلحهم، كثير من الناس ينشغل عن صلاح قلبه، وعن استقامة عمله، بمثل هذه الأشياء، والله عز وجل يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105] فصلاح القلب هو سبيل صلاح الجوارح.
يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وصلاح القلب يحصل بالعلم النافع، والعمل الصالح، فعلى المسلم أن يحرص على تدبر القرآن، وتدبر السنة، وتعلم العلم النافع، فإنه السبيل إلى صلاح قلبه، واستقامته على الطريق الوسط، من غير إفراط ولا تفريط.
فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن صالح الكنهلأما أسبابها، فيمكن إجمالها نظرًا لضيق الوقت في سببين رئيسين ترجع إليهما كثير من الأسباب:
السبب الأول: هو الجهل، والتلقي عن أهل الجهل، وقد أشير أو أشار الله جل وعلا إلى هذا السبب في قوله سبحانه: { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ } [النساء: 171] فقرن بين النهي عن الغلو، والنهي عن القول على الله عز وجل بلا علم، فالقول على الله عز وجل بلا علم واتخاذ الرؤساء الجهال، الذين يفتون بغير علم هذا سبب عظيم من أسباب الغلو في الدين.
أيضًا من الأسباب السبب الثاني: هو اتباع الهوى، وهذا السبب أيضًا أشير إليه في قوله سبحانه: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة: 77] .
فانظر كيف قرن الله عز وجل بين النهي عن الغلو، والنهي عن اتباع أهواء الغالين، الذين يقودون الأتباع إلى الغلو، فاتباع الهوى من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الغلو؛ وذلك أن الشخص قد يكون عنده علم وعنده معرفة، ولكن اتباعه لهواه يصده عن العمل بمقتضى معرفته، فيكون كأنه لا يسمع، كما قال جل وعلا: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [القصص: 50].
أيها الإخوة أما بالنسبة للعلاج، فلعلي أوجز فيه أيضًا، فمن أعظم العلاج:
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، ومجانبة البدع والحذر منها، يقول الله عز وجل: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103] والاعتصام بحبل الله جميعا هو سبيل إلى اجتماع الأمة وعدم تفرقها.
وفي حديث ابن عباس قال رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس، إني تركت فيكم شيئين ما إن اعتصمتم بهما لن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسنتي».
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا» ما المخرج من هذا الاختلاف؟ «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة».
أيها الإخوة من الأسباب أيضًا أو من العلاج لهذه الظاهرة: لزوم الجماعة، والسمع والطاعة لولي الأمر في غير المعصية، وقد تقدمت أدلة تشير إلى ذلك، منها حديث العرباض بن سارية المتقدم، ومنها الآية: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]، وفي حديث عبد الله بن مسعود أيضًا يرفعه إلى رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم» رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، ومعنى يغل قال ابن الأثير هو من الخيانة، ويروى: يغل بالفتح، وهو الحقد، يعني: لا يدخله حقد يزيله عن الحق.
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: الاستعانة بالله جل وعلا؛ توكلا ودعاءً: أيها الإخوة كلنا نقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] يعني: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين على عبادتنا إلا بك، الإنسان في هذه الحياة الدنيا في أمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وإذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
ولهذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «إني أحبك» أوصاه بوصية محب، فماذا قال؟ «فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» فالإنسان حتى يستقيم على طاعة الله عز وجل ويتجنب مسلكي الإفراط والتفريط هو بأمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وهذا تضمنته سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] ثم: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] وهو لا غلو فيه ولا جفاء، ثم: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] وهم أهل الجفاء: اليهود، { وَلاَ الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7]. وهم أهل الجهل والنصارى الذين غلوا.
وهكذا المسلم يستشعر هذا المعنى عندما يقرأ هذه السورة العظيمة، فيعلم أنها علاج لكثير من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا اليوم، ومنها مشكلة الغلو.
ومن الاستعانة بالله عز وجل: الدعاء، كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم».
من الأسباب أيضًا: طلب العلم من أهله، والصدور عن رأي العلماء، لا سيما في القضايا العامة، طلب العلم سبب عظيم من أسباب عدم الوقوع في الغلو في الدين؛ لأن الغلو كما تقدم هو مجاوزة الحد الشرعي، فإذا عرفت حدود الشريعة صرت بمنأى عن مجاوزة تلك الحدود، فتعلم العلم الشرعي، واحرص على أن تأخذه من أهله المتحققين به، المعروفين باستقامة المنهج، ولا بد أن يصدر الأمة والشباب عن آراء علماء الأمة، لا سيما في القضايا العامة التي تمس واقع الأمة، كما قال الله جل وعلا: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: القيام بالمناصحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالطرق المشروعة، على جميع مستويات الأمة، وللغالين على وجه الخصوص، يقول ربنا جل وعلا: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104] ويقول سبحانه: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهاتان الآيتان تبينان أن المشروع هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكن على وجه لا يفرق الأمة، ولهذا نجد اقتران هاتين الآيتين: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ }. [آل عمران: 104-105] وفي الآية الأخرى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } يعني: بالجهاد، بالعلم، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أيضًا: { وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهذه الأمور حتى تكون على الوجه المشروع، وإذا كانت على الوجه المشروع فإنها تؤدي إلى اجتماع الأمة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تؤدي إلى تفريق الأمة.
أيها الإخوة أيضًا من الأمور التي تعالج فيها هذه الظاهرة: أن يترك الإنسان ما لا يعنيه، وألا يتصدى لما ليس له بأهل، لا سيما بالنسبة لقضايا الأمة العامة، وقد مر معنا ذكر الآية: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] ونبي الهدى صلوات ربي وسلامه عليه يرشدنا جميعًا إلى ترك ما لا يعنينا، فيقول صلى الله عليه وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وكثيرًا من الشباب يقعون في ألوان من الحديث، فيما لا يعرف من أمور الأمة العامة، وتكفير الأشخاص المعينين، ويقع بينهم نزاع واختلاف، ويحصل التباغض أحيانًا والتفرق والتحزب، بسبب الحديث في أشخاص مدحًا أو قدحًا.
والواقع أيها الإخوة أن الذي ينبغي للمسلم أن يعرف المنهج الحق، وأن يسير عليه، وأن يعتني بصلاح قلبه، وألا يشتغل بتكفير الأشخاص المعينين بغير برهان ولا حجة، فإن هذا مسلك غير محمود العاقبة.
القضايا العامة التي تعترض الأمة يتصدى لها أهل العلم، وأهل الحل والعقد، وولاة الأمور، بما مكنهم الله عز وجل من القدرة العلمية والسلطة، فهؤلاء يتصدون لمثل هذه القضايا، وأما عامة الناس وقليلو العلم، وقليلو التجربة، فليس لهم أن يتصدوا لتلك القضايا؛ لأنهم إن تصدوا لها وقعوا في كثير من الخطأ، وانشغلوا بذلك أيضًا عما يصلحهم، كثير من الناس ينشغل عن صلاح قلبه، وعن استقامة عمله، بمثل هذه الأشياء، والله عز وجل يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105] فصلاح القلب هو سبيل صلاح الجوارح.
يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وصلاح القلب يحصل بالعلم النافع، والعمل الصالح، فعلى المسلم أن يحرص على تدبر القرآن، وتدبر السنة، وتعلم العلم النافع، فإنه السبيل إلى صلاح قلبه، واستقامته على الطريق الوسط، من غير إفراط ولا تفريط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق