أول صفحة تعنى بكلمات وفتاوى أهل العلم من مقاطع صوتية ومرئية ويشرف عليها بعض طلبة العلم وهي غير رسمية
الخميس، 26 مارس 2015
الثلاثاء، 10 مارس 2015
إحسان الظن من محاسن ديننا
إحسان الظن من محاسن ديننا
من شيم المؤمنين إحسان الظنون بعباد الله، فلا يتبعون سوء الظن إلا عند غلبة الشبهة، مع ذلك فلا يحققون سوء ظنهم، بل يحملون لإخوانهم أعظم المعاذير، وأجمل المحامل، فيقول الصالح لنفسه وقد بلغه عن أخيه سوءا: لعل الخبر لا يثبت، لعلها نميمة وبهتان، لعل أخي المسلم الذي قيلت فيه القالة لم يقصد، لعله كان ناسيًا، لعله كان غافلًا، لعله لعله.. فيستطيل في تلمس أعذار أخيه، فيروح وقد أراح فؤاده من حرارة الأحقاد، ووساوس المعاداة، فيكسب بذلك أربح التجارات، إذ قد ربح أجره، وربح راحة نفسه، وربح محبة الناس له، وربح النجح في أموره لحسن نيته، فالله شكور حميد، وربح حسن العاقبة في الدنيا، فكم ممن قصد الإضرار بعبد ثم تاب وأناب وشكر ذلك المضرور على إحسان ظن نفعه ولم يضره.والطباع سراقة، والجبلات نزاعة، وإنما الحلم بالتحلم، ومن فروع الحلم حسن الظن، ويتأتى بالدربة والممارسة وتعلم أسباب ذلك، وتلمح موارده، والبحث عن متمماته، وفحص غوائل النفس، وتنظيف دغائلها على من لا يستحقون سوى الإحسان.
قال الله تبارك وتعالى: “يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم” قال بعض السلف: من جعل لنفسه من حسن الظن بإخوانه نصيبًا، أراح قلبه. وقال رجل لمطيع بن إياس: جئتك خاطبًا لمودتك. قال: قد زوجتكها على شرط أن تجعل صداقها ألا تسمع في مقالة الناس.
ومرض الشافعي رحمه الله، فأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوَّى الله ضعفك. فقال الشافعي: لو قوَّى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلا الخير. فقال الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير. ألا رحمة الله على المطلبي، ما أحكمه وأرحمه وأحسن ظنه!
ومن رام النجاة فليأخذ بأسبابها، وليتعلق بعراها، وما ثم إلا توفيق الله تعالى وهداه، وقد جعل الله لذلك أسبابًا فمنها:
أن يلتمس الأعذار للمؤمنين، قال ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه. وفي التماس الأعذار راحة للنفس من عناء الظن السيئ، الذي يشغلها ويقلقها، وفيه أيضًا إبقاء على المودة، وحفاظ عليها من الزوال والانتهاء. وكان بعض الصالحين يردد:
تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا … لعل له عذر وأنت تلوم
ومنها: إجراء الأحكام على الظاهر، وإيكال أمر الضمائر إلى الله العليم الخبير، واجتناب الحكم على النيات، فإن الله لم يكلفنا أن نفتش في ضمائر الناس. لذا فالاكتفاء بظاهر الشخص، والحكم عليه من خلاله، من أعظم بواعث حسن الظن، وأقوى مثبتاته.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه … وصدق ما يعتاده من توهم
قال أبو حامد رحمه الله: إن الخطأ في حسن الظن بالمسلم، أسلم من الصواب بالطعن فيهم، فلو سكت إنسان مثلًا عن لعن إبليس، أو لعن أبي جهل، أو أبي لهب، أو من شاء من الأشرار طول عمره، لم يضره السكوت، ولو هفا هفوة بالطعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلاك، بل أكثر ما يعلم في الناس لا يحل النطق به؛ لتعظيم الشرع الزجر عن الغيبة، مع أنه إخبار عما هو متحقق في المغتاب.
هذا وقد أجاز العلماء بعض صور سوء الظن، كمن بينه وبين آخر عداوة، ويخاف على نفسه من مكره، فحينئذ عليه أن يحذر مكائده ومكره؛ كيلا يصادفه على غرة فيهلكه. ومن ذلك من أظهر المعصية وتخلف عن الطاعة بلا عذر، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، أسأنا به الظن. رواه البيهقي بسند صحيح.
قلت: وشتان بين ظنهم وظن أحد الناس الذي فقد جاره عن شهود الجماعة بضعة أشهر، فأخذ في الكلام في عرضه، والحط من قدره، وأن فيه من سيما المنافقين، وكذا وكذا.. ولم يكلف نفسه السؤال عنه، ولا احتمال حسن الظن به. وفي أحد المجالس بعدما أرغى وأزبد وانتفخ بالباطل، رد عليه أحد جيرانه: إن فلانًا الذي ما زلت تتكلم فيه قد كان مصابًا بمرض خطير ألزمه البيت ستة أشهر، ثم توفاه الله بعدها، فأسقط في يد صاحبنا! ولكن بعد خراب البصرة!
إن حسن الظن هو القاعدة، وسوءه مع مبرره الملح هو الاستثناء، فإن انقلب الاستثناء قاعدة هلك الناس! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من علم من أخيه مروءةً جميلةً فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى.
فعلى المؤمن الناصح لنفسه ألا يبحث لها عن المعاذير والمخارج، وألا يركبها قلائص التأويل التي لا تغني عنه من الحق شيئًا، في إساءة الظن بما لم يؤذن له فيهم من المؤمنين، بل عليه أن يسيء الظن بنفسه، ويحسن الظن بالعباد، وقد حسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأمر فقال: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا” رواه أحمد، قال النووي: المراد: النهي عن ظن السوء، وقال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك لا يملك. ومراد الخطابي: أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به.
ومن جميل أقوالهم: الستر لما عاينت، أحسن من إذاعة ما ظننت. وقال أحد الزهاد الحكماء: ألق حسن الظن على الخلق، وسوء الظن على نفسك، لتكون من الأول في سلامة، ومن الآخر على الزيادة.
بارقة: تكلم أحدهم على الحسن ثم ندم واعتذر؛ فعفا عنه وأوصاه بقوله: لا تخرجن من بيتك وفي نفسك أنك أفضل من مؤمن تلقاه قط.
———————-
نقلاُ عن الاقتصادية
****************
الكاتب:إبراهيم الدميجي
التآلف والوئام بإفشاء السلام
التآلف والوئام بإفشاء السلام
ما أعظم الدين الإسلامي، يأمر بكل حسن، وينهى عن كل قبيح، دينٌ كاملٌ، تولى حفظه ربُّ العالمين سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).ومن آداب الإسلام العظيمة، ومقاصده النبيلة، الحثُّ على التآلف، والتحابِّ، والمودة، ورتَّب الأجر الجزيل على من اتبع تعاليمه، وإرشاداته، ومن أعظم ما يُدخل الألفة والمحبَّة والمودة، إفشاء السلام، وهو نشره بين الناس؛ لإحياء سنته صلى الله عليه وسلم.
وللسلام صيغ منها: السلام عليكم، سلامٌ عليكم، أمَّا إذا كان السلام على الأموات فيقال: السلام على أهل الديار من المؤمنين، وإنْ كان السلام موجَّها لمن يرجى إسلامه فيقال: السلام على من اتبع الهدى.
والسلام هي التحيَّة المعروفة، تحيَّة المسلمين فيما بينهم، قال تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} الآية.
وتحية المسلمين في الدنيا وفي الجنة هي السلام، كما قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} الآية.
ومن الأهمية بمكان أنْ نتحدث عن هذا الموضوع، خصوصاً مع كثرة الخصام، والتفرق الحاصل في الأمَّة الإسلاميِّة، والفرقة والتباغض التي قد تحصل في بعض الأسر، بين الأخ وأخيه، وبين أبناء العم، أو أبناء الخال، تجد البعض لا يسلِّم على أخيه أو أخته، أو ابن عمِّه لخصومة حصلت، أو لخلافٍ في وجهات النظر، يُجعلُ فيها من الحبَّة قبَّة، وتؤول الألفاظ وتُفسَّر على أقبح وأسوإ الظن، أو انتصاراً للنفس، حتى تصل إلى درجة القطيعة، فلا يسلِّم عليه، ولا يكلِّمه، وقد تمضي الأعوام، وهو على ذلك، وهذا لا يجوز، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) أخرجه الإمام أحمد، وصححه الألباني.
فأفاد الحديث أنَّ خيرهما، هو من يبدأ بالسلام، سواء كان هو المخطئ، أم الآخر. ولا بدَّ أن يكون السلام مسموعاً، فلا يكون بصوت لا يسمعه المسلَّم عليه، أخرج البخاري في الأدب المفرد، عن ثابت بن عبيد قال: أتيت مجلساً فيه عبد الله بن عمر – رضي الله عنه- فقال: (إذا سلمت فأسمع؛ فإنها تحيَّة من عند الله مباركة طيِّبة) صححه الألباني.
وقال النووي رحمه الله: (أقلُّه أنْ يرفع صوته، بحيث يسمعه المسلَّم عليه، فإن لم يسمعه، لم يكن آتياً بالسنة).
والسلام يكون على من عرفت ومن لم تعرف، فلا يُقصر على المعرفة فحسب، عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنَّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ( تطعم الطعام، وتقراُ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) متفق عليه.
وفي هذا الزمن أصبح كثير من الناس، لا يسلِّم إلا على من يعرف، أمَّا من لا يعرف فلا يسلِّم عليه، وهذا خطأٌ بيِّن، ينبغي التنبه له، وينبغي تعويد النفس على إفشاء السلام.
وللمتباغضين المتحاسدين المتدابرين أقول: عليكم بالسلام على بعضكم، فإنَّ السلام طريقٌ موصلٌ للمحبَّة والألفة، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) أخرجه مسلم.
كما إنَّ أبخل الناس من بخل بالسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام). أخرجه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني.
إنَّ السلام طريقٌ إلى المحبَّة والتآلف، واجتماع الكلمة، وهو مزيلٌ للعداوة والخصومة، ويسلُّ من القلب السخيمة.
إنَّ السلام سنةٌ من سنن هذا الدين، وأدبٌ من آدابه الفاضلة التي يؤجر عليها المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
إضاءة: السلام سلامة، والسلام تحيَّة المسلمين في الدنيا وفي الجنة، وهي أفضل تحيَّة على وجه الأرض، خصَّ الله بها المسلمين إكراماً لهم، وتفضلاً منه سبحانه وتعالى، فإنْ كان بينك وبين أخيك المسلم خصومة، وفي قلبك شيءٌ عليه، فبادر بالسلام عليه – سلَّمك الله- ليزول الخلاف، وتسلَّ سخيمة قلبك، وقلبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
————————–
نقلاً عن صحيفة الجزيرة السعودية
********************
الكاتب:عمر بن عبدالله بن مشاري المشاري
– خطيب جامع بلدة الداخلة في سدير
نشر المحبة والسرور
نشر المحبة والسرور
الإنسان مدنيٌّ بطبعه، خلقه الله اجتماعيًّا، مُحتاجًا إلى الناس في طعامه وشرابه، وملبَسه ومسكنه، ومركَبه وفي شأنه كلِّه؛ زراعةً وتجارةً، وتعليمًا وعلاجًا وصناعةً، وما لا يُحصَى من الحاجات والعلاقات، وترابُط المصالِح.
ومن أجل هذا؛ فإن أخلاق الإنسان وحُسن طبائعه لا تظهرُ إلا من خلال علاقاته بمن حولَه من الأقرباء والأصدقاء والغُرباء. أما الانزِواء فليس من صِفات الإنسان السوِيِّ، فضلاً عن المؤمن الصالح،
وفي الحديث: «المُسلمُ الذي يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالِطُهم ولا يصبِرُ على أذاهم»؛ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
وفي حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -: «وأحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم، وأحبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخِلُه على قلبِ مُسلم».
بل لقد سُئِل النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: «إدخالُ السرور على مؤمن، أو أن تُشبِع جوعتَه، أو أن تستُرَ عورتَه»؛ رواه الطبراني من حديث عمر، وإسنادُه حسنٌ لغيره.
ويقول الإمام مالكٌ – رحمه الله – وقد سُئِل: أيُّ الأعمال تحبُّ؟ قال: “إدخالُ السرور على المسلمين”.
المُسلِمون كالجسَد الواحد، إذا اشتكَى بعضُه اشتكَى كلُّه، وإذا فرِحَ بعضُه فرِحَ كلُّه .. المسلمُ يفرحُ لفرح أخيه، ويُشارِكُه سُرورَه وابتِهاجَه، كما أنه يحزَنُ لحُزنه، ويُصبِّرُه ويُواسِيه.
وها هي الأيام تمر على أمتنا وهي في أنحاء كثيرة تمُرُّ بأزماتٍ ومِحَنٍ ومصائِب وفتنٍ، تكالَبَ عليها أعداؤُها، وأجلَبَ عليها بعضُ أبنائِها. فما أحوجَ هؤلاء المُبتلَين للمُواساة، وإدخال السرور، وجلب المُفرِحات، وليُسعِد النُّطق كما يُسعِد الحال؛ من يتامَى وأرامِل، ومُشرَّدين، وغُرباء، ولاجِئين، وفُقراء ومساكين، ومُستضعَفين.
ومُدخِلاتُ السرور وجالِباتُ البهجة لا تقعُ تحت حصرٍ، فليس المالُ وحده هو جالِبَ السرور، وزارِعَ البهجة؛ بل أبوابُ الإحسان واسِعة؛ من القول الحسن، والفعل الجميل، والخُلُق الكريم، والمُشاركة الوجدانية.
إنها أبوابٌ واسعة بقدر اتِّساع نعَم الله التي لا تُحصَى، فهي كلُّها ميادين للفرح والسرور وللابتِهاج.
وأولُ جالِبات السرور وأولاها أولها: تحقيقُ التوحيد، والإيمان بالله، وحُسن الاعتماد عليه، والتوكُّل عليه، وتفويضُ الأمور إليه، وأن يُوطِّدَ المرءُ نفسَه ألا يتعلَّقَ بالناس، ولا ينتظِرَ منهم جزاءً ولا شُكورًا، مع عُمران القلب واللسان بذِكره، والتفكُّر في نعمه وآلائِه التي لا تُحصَى، والتحدُّث بهذه النِّعم ظاهرًا وباطنًا.
ومن جالِبات السرور: إظهار الفرح والابتِهاج أثناء اللقاء بالإخوان، وتجنُّب العُبوس والتقطِيب؛ فتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة.
الابتِسامةُ – حفظك الله – لا تتنافَى مع الوقار، ولا الخشوع، ولا حُسن التعبُّد. فهذا أيوب السختياني – رحمه الله – كان بكَّاءً في الليل، بسَّامًا في النهار، قال عنه أصحابُه: ما رأينا أحدًا أكثرَ تبسُّمًا في وجوه الرجال منه. فالابتِسامة مما يُدخِلُ السرور، وينشُر عبقَ الفرحة، ويُلطِّفُ الأجواء، وينزِعُ أكدارَ الكآبَة.
وقد قال – عليه الصلاة والسلام -: «إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالِكم، فليسَعهُم منكم بسطُ الوجه وحُسن الخُلُق».
والإمام الذهبيُّ يقول: “هذا هو خُلُق الإسلام؛ فأعلى المقامات: من كان بكَّاءً بالليل، بسَّامًا بالنهار”.
وقال: “ينبغي لمن كان عبوسًا مُنقبِضًا أن يبتسِمَ، ويُحسِّن خُلُقَه، ويمقُتَ نفسَه على رداءَة خُلُقه”.
كيف – بارك الله فيكم – إذا صاحبَ الابتسامةَ كلمةٌ طيبةٌ؟! فالكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ .
ويدخلُ في ذلك – بارك الله فيكم -: تركُ المُفاصَلة والاستِقصاء في البيع مع أصحابِ المحلاَّت الصغيرة، بقصد إدخال السرور عليهم، والتنازُل عن بعضِ الدُّرَيهمات من أجل هذا الغرضِ النَّبيل.
فابتسِموا – رحمكم الله -، وانشُروا الابتِسامة، وأظهِرُوا مشاعِرَكم السَّارَّة.
ومما يجلِبُ السرورَ: التهنئةُ، فهي مُشاركةٌ بالدعاء والتبريك بما يسُرُّ أخاك ويُرضِيه، وفيه من التوادِّ والتراحُم والتعاطُف ما لا يخفَى.
التهنئةُ محبَّةٌ من القلب، وسلامةٌ في الصدر، وبُعدٌ عن الحسَد، ومُشاركةٌ في فرح للنعمة التي حصلَت لأخيك من نجاحٍ، وسلامةٍ، وربحٍ، وتحصيلِ عملٍ، ورزقٍ بمولودٍ، ومنزلٍ جديدٍ، ومُناسباتٍ له سعيدة.
وعند الطبراني في “مسند الشاميين”، والخرائطيِّ في “مكارم الأخلاق” عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «أتدرُون ما حقُّ الجار؟ إن استعانَ بك أعنتَه، وإن استقرضَك أقرضتَه، إن أصابَه خيرٌ هنَّأتَه، وإن أصابَته مُصيبةٌ عزَّيتَه ..» الحديث.
ومن أظهر المُناسبات التي ينبغي أن تفشُو فيها التهنئة: مناسبتُكم هذه، مناسبةُ عيد الفِطر السعيد. فهنيئًا لكم عيدكم، وتقبَّل الله صيامَكم، وأعادَه على أمتِنا بالعزِّ والنصر والتمكين.
يقول محمد بن زياد: كنت مع أبي أُمامة الباهليِّ وغيره من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، فكانوا إذا رجَعوا من العيد يقول بعضُهم لبعضٍ: “تقبَّل الله منا ومنك”؛ قال أحمد: “إسنادُ حديث أبي أُمامة جيِّدٌ”.
وعن جُبير بن نُفَير قال: كان أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا التقَوا يوم العيد يقول بعضُهم لبعضٍ: “تقبَّل الله منا ومنكم”؛ وإسنادُه حسن.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً.
ومن أعظم ما يجلِبُ السُّرور: تبادُلُ الهدايا، فتهادَوا تحابُّوا. فالهديَّةُ تُوثِّقُ العلاقات، وتنزِعُ سخائِم الصدور.
جِيءَ إلى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يومًا بثوبٍ له أعلام – أي: خطوط -، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «أين أمُّ خالد؟» – وهي طفلةٌ صغيرة، بنتٌ لأبي العاص، كانت قد وُلِدت في الحبشة -، فجِيءَ بالصبيَّة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فجعل يُلبِسُها الثوب، وهي تنظُرُ إلى أعلامه وإلى الثوب فرحةً مسرورةً، فلما ألبسَها الثوب جعل يُشيرُ إلى أعلام الثوب – يعني: الخطوط المُلوَّنة -، ويقول: «هذا سَنَا يا أمَّ خالد، هذا سَنَا يا أمَّ خالد» – أي: جميل بلغة الحبشة -.
بأبي هو وأمي – عليه الصلاة والسلام -. كلُّه من أجل إدخال السرور على هذه الطفلة الصغيرة، ومُشاركتها في مشاعِرها الطفوليَّة الصغيرة.
ومرَّ بعضُ السلف على أطفالٍ يلعبون، فمضَى واشترَى جوزًا – وهو نوعٌ من الحلوَى -، فجعل يُوزِّعُه على الأطفال، ثم مضَى. فقيل له في ذلك، فقال: “أكسبُ أجرًا، وأُدخِلُ سرورًا، ويُفرِحُهم مالٌ يسير”.
ومما يجلِبُ السرور: إجابةُ دعوة أخيك، وزيارتُه، وتفقُّده بالسؤال عنه هاتفيًّا، أو حضوريًّا، أو كتابيًّا، ومُشاركتُه في أفراحِه ومناسباته، وتبادُل المِزاح والطرائف؛ فالمِزاحُ خيرٌ من تصنُّع الرذالَة والثِّقَل.
بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكُن يستأثِرُ بالفرح وحده، وإنما كان يسعَى ليُشرِك أصحابَه في فرحِه؛ فقد جاء في حديثِ الدجَّال قولُه – صلى الله عليه وسلم -: «ولكنَّ تميمًا أتاني فأخبرَني خبرًا منعَني القيلُولَة من الفرح وقُرَّة العين، فأحببتُ أن أنشُرَ عليكم فرحَ نبيِّكم».
بأبي هو وأمي – عليه الصلاة والسلام -.
ومما ينشُرُ الوُدَّ ويجلِبُ السرورَ – أيها الأحبَّة -: إلقاءُ التحية، وإفشاءُ السلام، والبشاشةُ في الوجه، والمُصافحة، والمُعانقَة، ودعوةُ أخيك بأحبِّ الأسماء إليه.
الحياةُ – حفظكم الله – بين المُحبِّين جميلة، ولو غشاها الفقرُ والفاقة.
ولا تنسَوا قضاء الحوائِج، والإحسانَ إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف، فذلكم من أعظم ما يُستجلَبُ به السرور، ويُدفعُ به الهموم والغموم؛ تقضِي له دَينًا، وتُنفِّس له كربًا، وتُيسِّر على مُعسِر، تُواسِيه وتُسلِيه.
وفي الحديث: «لئن أمشِي مع أخي في حاجته حتى أُثبِتَها له أحبُّ إليَّ من أن أعتكِفَ في مسجدِي هذا شهرًا».
فالفرحُ والسرورُ وإدخالُهما على الإخوان مطلبٌ مشروع، وغايةٌ مُبتغاة، وهدفٌ منشود. وحقُّ كل إنسانٍ أن يسعَى إلى فرحِ قلبِه، وزوال همِّه وهمِّ إخوانه، وتبديد الأحزان، ودفن الآلام. إنه مطلبٌ كريمٌ، يحفظُ توازُنَ الفرد والمجموعة، حتى لا تطحنَهم الآلام برحاها.
فاجتهِدوا – حفظكم الله، وجعل كل أيامِكم سُرورًا وسعادةً -، اجتهِدوا في إدخال السرور على آبائِكم وأمهاتِكم وأبنائِكم وبناتِكم وإخوانكم وأخواتكم وأقاربكم الأقرب فالأقرب .
—————-
فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن حميد
الغلو في الدين معناه وبيان صوره وأسبابه وخطره
الغلو في الدين معناه وبيان صوره وأسبابه وخطره
ظاهرة الغلو في الدين لها أسباب، ولها علاج.
أما أسبابها، فيمكن إجمالها نظرًا لضيق الوقت في سببين رئيسين ترجع إليهما كثير من الأسباب:
السبب الأول: هو الجهل، والتلقي عن أهل الجهل، وقد أشير أو أشار الله جل وعلا إلى هذا السبب في قوله سبحانه: { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ } [النساء: 171] فقرن بين النهي عن الغلو، والنهي عن القول على الله عز وجل بلا علم، فالقول على الله عز وجل بلا علم واتخاذ الرؤساء الجهال، الذين يفتون بغير علم هذا سبب عظيم من أسباب الغلو في الدين.
أيضًا من الأسباب السبب الثاني: هو اتباع الهوى، وهذا السبب أيضًا أشير إليه في قوله سبحانه: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة: 77] .
فانظر كيف قرن الله عز وجل بين النهي عن الغلو، والنهي عن اتباع أهواء الغالين، الذين يقودون الأتباع إلى الغلو، فاتباع الهوى من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الغلو؛ وذلك أن الشخص قد يكون عنده علم وعنده معرفة، ولكن اتباعه لهواه يصده عن العمل بمقتضى معرفته، فيكون كأنه لا يسمع، كما قال جل وعلا: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [القصص: 50].
أيها الإخوة أما بالنسبة للعلاج، فلعلي أوجز فيه أيضًا، فمن أعظم العلاج:
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، ومجانبة البدع والحذر منها، يقول الله عز وجل: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103] والاعتصام بحبل الله جميعا هو سبيل إلى اجتماع الأمة وعدم تفرقها.
وفي حديث ابن عباس قال رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس، إني تركت فيكم شيئين ما إن اعتصمتم بهما لن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسنتي».
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا» ما المخرج من هذا الاختلاف؟ «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة».
أيها الإخوة من الأسباب أيضًا أو من العلاج لهذه الظاهرة: لزوم الجماعة، والسمع والطاعة لولي الأمر في غير المعصية، وقد تقدمت أدلة تشير إلى ذلك، منها حديث العرباض بن سارية المتقدم، ومنها الآية: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]، وفي حديث عبد الله بن مسعود أيضًا يرفعه إلى رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم» رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، ومعنى يغل قال ابن الأثير هو من الخيانة، ويروى: يغل بالفتح، وهو الحقد، يعني: لا يدخله حقد يزيله عن الحق.
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: الاستعانة بالله جل وعلا؛ توكلا ودعاءً: أيها الإخوة كلنا نقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] يعني: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين على عبادتنا إلا بك، الإنسان في هذه الحياة الدنيا في أمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وإذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
ولهذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «إني أحبك» أوصاه بوصية محب، فماذا قال؟ «فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» فالإنسان حتى يستقيم على طاعة الله عز وجل ويتجنب مسلكي الإفراط والتفريط هو بأمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وهذا تضمنته سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] ثم: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] وهو لا غلو فيه ولا جفاء، ثم: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] وهم أهل الجفاء: اليهود، { وَلاَ الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7]. وهم أهل الجهل والنصارى الذين غلوا.
وهكذا المسلم يستشعر هذا المعنى عندما يقرأ هذه السورة العظيمة، فيعلم أنها علاج لكثير من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا اليوم، ومنها مشكلة الغلو.
ومن الاستعانة بالله عز وجل: الدعاء، كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم».
من الأسباب أيضًا: طلب العلم من أهله، والصدور عن رأي العلماء، لا سيما في القضايا العامة، طلب العلم سبب عظيم من أسباب عدم الوقوع في الغلو في الدين؛ لأن الغلو كما تقدم هو مجاوزة الحد الشرعي، فإذا عرفت حدود الشريعة صرت بمنأى عن مجاوزة تلك الحدود، فتعلم العلم الشرعي، واحرص على أن تأخذه من أهله المتحققين به، المعروفين باستقامة المنهج، ولا بد أن يصدر الأمة والشباب عن آراء علماء الأمة، لا سيما في القضايا العامة التي تمس واقع الأمة، كما قال الله جل وعلا: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: القيام بالمناصحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالطرق المشروعة، على جميع مستويات الأمة، وللغالين على وجه الخصوص، يقول ربنا جل وعلا: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104] ويقول سبحانه: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهاتان الآيتان تبينان أن المشروع هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكن على وجه لا يفرق الأمة، ولهذا نجد اقتران هاتين الآيتين: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ }. [آل عمران: 104-105] وفي الآية الأخرى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } يعني: بالجهاد، بالعلم، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أيضًا: { وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهذه الأمور حتى تكون على الوجه المشروع، وإذا كانت على الوجه المشروع فإنها تؤدي إلى اجتماع الأمة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تؤدي إلى تفريق الأمة.
أيها الإخوة أيضًا من الأمور التي تعالج فيها هذه الظاهرة: أن يترك الإنسان ما لا يعنيه، وألا يتصدى لما ليس له بأهل، لا سيما بالنسبة لقضايا الأمة العامة، وقد مر معنا ذكر الآية: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] ونبي الهدى صلوات ربي وسلامه عليه يرشدنا جميعًا إلى ترك ما لا يعنينا، فيقول صلى الله عليه وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وكثيرًا من الشباب يقعون في ألوان من الحديث، فيما لا يعرف من أمور الأمة العامة، وتكفير الأشخاص المعينين، ويقع بينهم نزاع واختلاف، ويحصل التباغض أحيانًا والتفرق والتحزب، بسبب الحديث في أشخاص مدحًا أو قدحًا.
والواقع أيها الإخوة أن الذي ينبغي للمسلم أن يعرف المنهج الحق، وأن يسير عليه، وأن يعتني بصلاح قلبه، وألا يشتغل بتكفير الأشخاص المعينين بغير برهان ولا حجة، فإن هذا مسلك غير محمود العاقبة.
القضايا العامة التي تعترض الأمة يتصدى لها أهل العلم، وأهل الحل والعقد، وولاة الأمور، بما مكنهم الله عز وجل من القدرة العلمية والسلطة، فهؤلاء يتصدون لمثل هذه القضايا، وأما عامة الناس وقليلو العلم، وقليلو التجربة، فليس لهم أن يتصدوا لتلك القضايا؛ لأنهم إن تصدوا لها وقعوا في كثير من الخطأ، وانشغلوا بذلك أيضًا عما يصلحهم، كثير من الناس ينشغل عن صلاح قلبه، وعن استقامة عمله، بمثل هذه الأشياء، والله عز وجل يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105] فصلاح القلب هو سبيل صلاح الجوارح.
يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وصلاح القلب يحصل بالعلم النافع، والعمل الصالح، فعلى المسلم أن يحرص على تدبر القرآن، وتدبر السنة، وتعلم العلم النافع، فإنه السبيل إلى صلاح قلبه، واستقامته على الطريق الوسط، من غير إفراط ولا تفريط.
فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن صالح الكنهلأما أسبابها، فيمكن إجمالها نظرًا لضيق الوقت في سببين رئيسين ترجع إليهما كثير من الأسباب:
السبب الأول: هو الجهل، والتلقي عن أهل الجهل، وقد أشير أو أشار الله جل وعلا إلى هذا السبب في قوله سبحانه: { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ } [النساء: 171] فقرن بين النهي عن الغلو، والنهي عن القول على الله عز وجل بلا علم، فالقول على الله عز وجل بلا علم واتخاذ الرؤساء الجهال، الذين يفتون بغير علم هذا سبب عظيم من أسباب الغلو في الدين.
أيضًا من الأسباب السبب الثاني: هو اتباع الهوى، وهذا السبب أيضًا أشير إليه في قوله سبحانه: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة: 77] .
فانظر كيف قرن الله عز وجل بين النهي عن الغلو، والنهي عن اتباع أهواء الغالين، الذين يقودون الأتباع إلى الغلو، فاتباع الهوى من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الغلو؛ وذلك أن الشخص قد يكون عنده علم وعنده معرفة، ولكن اتباعه لهواه يصده عن العمل بمقتضى معرفته، فيكون كأنه لا يسمع، كما قال جل وعلا: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [القصص: 50].
أيها الإخوة أما بالنسبة للعلاج، فلعلي أوجز فيه أيضًا، فمن أعظم العلاج:
أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، ومجانبة البدع والحذر منها، يقول الله عز وجل: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103] والاعتصام بحبل الله جميعا هو سبيل إلى اجتماع الأمة وعدم تفرقها.
وفي حديث ابن عباس قال رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس، إني تركت فيكم شيئين ما إن اعتصمتم بهما لن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسنتي».
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا» ما المخرج من هذا الاختلاف؟ «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة».
أيها الإخوة من الأسباب أيضًا أو من العلاج لهذه الظاهرة: لزوم الجماعة، والسمع والطاعة لولي الأمر في غير المعصية، وقد تقدمت أدلة تشير إلى ذلك، منها حديث العرباض بن سارية المتقدم، ومنها الآية: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]، وفي حديث عبد الله بن مسعود أيضًا يرفعه إلى رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم» رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، ومعنى يغل قال ابن الأثير هو من الخيانة، ويروى: يغل بالفتح، وهو الحقد، يعني: لا يدخله حقد يزيله عن الحق.
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: الاستعانة بالله جل وعلا؛ توكلا ودعاءً: أيها الإخوة كلنا نقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] يعني: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين على عبادتنا إلا بك، الإنسان في هذه الحياة الدنيا في أمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وإذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
ولهذا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «إني أحبك» أوصاه بوصية محب، فماذا قال؟ «فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» فالإنسان حتى يستقيم على طاعة الله عز وجل ويتجنب مسلكي الإفراط والتفريط هو بأمس الحاجة إلى معونة الله جل وعلا.
وهذا تضمنته سورة الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] ثم: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6] وهو لا غلو فيه ولا جفاء، ثم: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] وهم أهل الجفاء: اليهود، { وَلاَ الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7]. وهم أهل الجهل والنصارى الذين غلوا.
وهكذا المسلم يستشعر هذا المعنى عندما يقرأ هذه السورة العظيمة، فيعلم أنها علاج لكثير من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا اليوم، ومنها مشكلة الغلو.
ومن الاستعانة بالله عز وجل: الدعاء، كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم».
من الأسباب أيضًا: طلب العلم من أهله، والصدور عن رأي العلماء، لا سيما في القضايا العامة، طلب العلم سبب عظيم من أسباب عدم الوقوع في الغلو في الدين؛ لأن الغلو كما تقدم هو مجاوزة الحد الشرعي، فإذا عرفت حدود الشريعة صرت بمنأى عن مجاوزة تلك الحدود، فتعلم العلم الشرعي، واحرص على أن تأخذه من أهله المتحققين به، المعروفين باستقامة المنهج، ولا بد أن يصدر الأمة والشباب عن آراء علماء الأمة، لا سيما في القضايا العامة التي تمس واقع الأمة، كما قال الله جل وعلا: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
ومن الأسباب أيضًا التي تعين على علاج هذه الظاهرة: القيام بالمناصحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالطرق المشروعة، على جميع مستويات الأمة، وللغالين على وجه الخصوص، يقول ربنا جل وعلا: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104] ويقول سبحانه: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهاتان الآيتان تبينان أن المشروع هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكن على وجه لا يفرق الأمة، ولهذا نجد اقتران هاتين الآيتين: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ }. [آل عمران: 104-105] وفي الآية الأخرى: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } يعني: بالجهاد، بالعلم، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن أيضًا: { وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].
فهذه الأمور حتى تكون على الوجه المشروع، وإذا كانت على الوجه المشروع فإنها تؤدي إلى اجتماع الأمة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تؤدي إلى تفريق الأمة.
أيها الإخوة أيضًا من الأمور التي تعالج فيها هذه الظاهرة: أن يترك الإنسان ما لا يعنيه، وألا يتصدى لما ليس له بأهل، لا سيما بالنسبة لقضايا الأمة العامة، وقد مر معنا ذكر الآية: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] ونبي الهدى صلوات ربي وسلامه عليه يرشدنا جميعًا إلى ترك ما لا يعنينا، فيقول صلى الله عليه وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وكثيرًا من الشباب يقعون في ألوان من الحديث، فيما لا يعرف من أمور الأمة العامة، وتكفير الأشخاص المعينين، ويقع بينهم نزاع واختلاف، ويحصل التباغض أحيانًا والتفرق والتحزب، بسبب الحديث في أشخاص مدحًا أو قدحًا.
والواقع أيها الإخوة أن الذي ينبغي للمسلم أن يعرف المنهج الحق، وأن يسير عليه، وأن يعتني بصلاح قلبه، وألا يشتغل بتكفير الأشخاص المعينين بغير برهان ولا حجة، فإن هذا مسلك غير محمود العاقبة.
القضايا العامة التي تعترض الأمة يتصدى لها أهل العلم، وأهل الحل والعقد، وولاة الأمور، بما مكنهم الله عز وجل من القدرة العلمية والسلطة، فهؤلاء يتصدون لمثل هذه القضايا، وأما عامة الناس وقليلو العلم، وقليلو التجربة، فليس لهم أن يتصدوا لتلك القضايا؛ لأنهم إن تصدوا لها وقعوا في كثير من الخطأ، وانشغلوا بذلك أيضًا عما يصلحهم، كثير من الناس ينشغل عن صلاح قلبه، وعن استقامة عمله، بمثل هذه الأشياء، والله عز وجل يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105] فصلاح القلب هو سبيل صلاح الجوارح.
يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وصلاح القلب يحصل بالعلم النافع، والعمل الصالح، فعلى المسلم أن يحرص على تدبر القرآن، وتدبر السنة، وتعلم العلم النافع، فإنه السبيل إلى صلاح قلبه، واستقامته على الطريق الوسط، من غير إفراط ولا تفريط.
الوسائل التي تحقق الأمن:
بسم الله الرحمن الرحيم، الوسائل التي تحقق الأمن كثيرة جِدًّا ولا يمكن أن نحصرها بمثل هذا المقام، ولقد ذكر منها فضيلة الشيخ عبد العزيز الحمدان الشيء الكثير، ولست بآتٍ بجديد، ولكن نذكر بعض وسائل تحقيق الأمن في المجتمعات.
الوسيلة الأولى:
طاعة الله جل وعلا.
الوسيلة الثانية:
طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوسيلة الثالثة:
طاعة ولاة الأمور الذين أمر الله جل وعلا بطاعتهم، وجعل طاعتهم من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمروا بطاعة الله، كما في قول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [سورة النساء: الآية 59].
فاحترام ولاة الأمور والسمع والطاعة لهم من أعظم الوسائل التي يستتب بها الأمن بإذن الله جل وعلا، فبعض الناس يقول: أنا مسلم أعبد الله، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس لي وَلِيُّ أمر أأتَمر بأمره وأنتهي عن نهيه، وليست في رقبتي بيعة لأحد، ولست أعترف بأي إنسان يأتمر على الناس، أو يكون له الأمر عليهم. فنقول له: إن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قال:: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً (17)».(16)
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه لما قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: «أُوصِيكُمْ بِتقْوى اللّهِ، والسّمْعِ والطّاعةِ وإِنْ كان عبْدًا حبشِيًّا؛ فإِنّهُ منْ يعِشْ مِنْكُمْ يرى بعْدِى اخْتِلافًا كثِيرًا، فعليْكُمْ بِسُنّتِى، وسُنّةِ الْخُلفاءِ الرّاشِدِين الْمهْدِيِّين، وعضُّوا عليْها بِالنّواجِذِ، وإِيّاكُمْ ومُحْدثاتِ الأُمُورِ، فإِنّ كُلّ مُحْدثةٍ بِدْعةٌ، وإِنّ كُلّ بِدْعةٍ ضلالةٌ».(18)
فهذا دليل على أن السمع والطاعة لولاة الأمور في غير معصية الله من أعظم وأهم الوسائل التي يستتب بها الأمن، ولا يجوز للمسلم أن يطعن في ولاة أمره، لا في المجالس، ولا في المنابر، ولا في الاجتماعات العامة، ولا أن يظهر عيوبهم ومثالبهم، ولا يصح القدح فيهم ولا إيغال الصدور عليهم؛ لأن بعض الناس يكون هذا شغله الشاغل في المجالس، إذا جلس في مجلس أصبح يسب في ولاة الأمر ويُظْهر معايبهم، ويظهر حقده عليهم، ويوغل صدور الناس عليهم، وذلك يسبب الفرقة، ويسبب خلع البيعة، ويسبب عدم السمع والطاعة لولي الأمر، فإذا لم يُسْمَع ويُطَع لولي الأمر فإن الناس بذلك تكون بينهم الفوضى، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم، فإن الناس لا يصلحون بدون راعٍ، ولا يصلحون بدون ولي أمر، وإنه إذا افترق الناس واختلفوا على ولي أمرهم وأظهروا معايبه على المنابر وقدحوا فيه وطعنوا فيه ونشروا ما عنده من أمور، فإن ذلك يسبب الفوضى في المجتمعات، ومن ثَمَّ يكون ذلك سَبَبًا في خروج الناس على ولاة أمورهم، والطعن فيهم وعدم السمع والطاعة لهم.
وما حصل من وجود هذه الفرق الضالة وغيرها من الفئات والجماعات التي تدعي أنها جماعات إسلامية، أو أنها جماعات جهاد وغير ذلك إنما هو بسبب عدم السمع والطاعة لولاة الأمر وعلماء المسلمين المشهود لهم، مما جعلهم يستحلون دماء المسلمين ويستحلون أعراضهم وأموالهم، فهم يسمعون ويطيعون لأشخاص ليس لهم سمع ولا طاعة، وهذا – والعياذ بالله – من أعظم أسباب نشر الفرقة والفساد، وهذا كله بسبب الطعن في علماء المسلمين وولاة أمورهم، فالواجب علينا إذا كنا نريد الأمن الحقيقي أن نسمع ونطيع لمن ولاهم الله أمرنا، وأن نكون جماعةً واحدة، لا جماعات، وأن نكون فرقة واحدة، لا فِرَقًا، وحزبًا واحدًا، لا أحزابًا.
إن الله جل وعلا جعل حزبه هم الفائزون الغالبون الذين يضعون أيديهم في أيدي ولاة أمورهم وعلمائهم، وبعض الناس يطعن في العلماء ويقول: هؤلاء علماء السلطة أو علماء الحكام، أو علماء الأموال أو غير ذلك. والعلماء لا يُبَلِّغون إلا ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف لنا أن نعرف السنة، وكيف لنا أن نعرف الحلال والحرام، وكيف لنا أن نعرف ما أوجب الله علينا إلا عن طريق العلماء ؟! فَهُم مَن يفهمون القرآن كما فهمه الصحابة ومَن بعد الصحابة من التابعين لهم بإحسان. فالعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا دِرْهمًا.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن قوام هذا الدين كتاب يهدي، وسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
فإذا خلا هذا الدين وخلت البلاد من الكتاب الذي يهدي، وهم العلماء، والسيف الذي ينصر، وهم الحكام، ضاع الأمن وانتشر الفساد، وانتشر الشر، وقامت قائمة أهل الفساد وأهل الشر والفتن، فلا يأمن الناس على أموالهم، ولا على أعراضهم، ولا على دمائهم، فيجب علينا احترام العلماء، واحترام ولاة الأمور، والقيام معهم، ووضع أيدينا في أيدي رجال الأمن، وأن نكون كلنا رجال أمن، وليس الأمن في المملكة العربية السعودية قاصرًا على السعوديين فقط، وليس وَقْفًا عليهم، بل إنه واجب على جميع أفراد المجتمع من جميع المسلمين الذين وَفَدوا لهذه البلاد لكي ينعموا بنعم الأمن فيها والاستقرار، فيجب علينا جميعًا أن نضع أيدينا في أيدي بعضنا البعض، وأن نضع أيدينا في أيدي ولاة الأمور والعلماء، وأن نكون في حماية أمن هذا البلد.
وعلينا أن نأسى إذا سمعنا بتفجير أو قتل أو إراقة دم، أو إذا علمنا بوجود المفاسد من بيوت دعارة أو غير ذلك، فالمسلم يهتم بأمر المسلمين ويحزن إذا أصاب الأمة من الشر الذي ذكرنا، فهذا من باب إنكار المنكر بالقلب، فعلى المسلم أن ينكر بقلبه مثل هذه الأشياء، ويحب على المسلم أن يحزن إذا اختل الأمن، ويجب علينا نحن أن نكون يَدًا واحدة في الإبلاغ عن كل مجرم يريد أن يهتك أمن المسلمين من أصحاب المخدرات، أو من أصحاب الدعارة أو من أصحاب الفساد، ممن يروجون الفساد بجميع أنواعه وأشكاله، سواء يروجون أفكارًا تكفيرية، أو يروجون أفكارًا لإفساد المجتمع من فواحش وغيرها من الأمور التي قد حرمها الله تبارك وتعالى وأمر بأن نكون يدا واحدة ضدها.
وينبغي علينا جميعًا أن نستحضر أهمية الأمن وخطر اختلاله، وأن يكون في قلب كل مسلم منا حرص على أن يستتب الأمن في بلده وبين أهله وفي جماعة المسلمين جميعًا، وأن نحب الأمن للمسلمين وأن نكره الفرقة والخوف والرعب للمسلمين، هذا هو الذي يجب علينا جميعًا تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا وعلمائنا وولاة أمورنا، فعلينا أن نحرص على هذا الأمن وأن نحفظه، واعلموا أن باختلال الأمن تكون إراقة الدماء دمائي ودمائك، وباختلاله تسبتاح الأعراض والأموال، عرضي وعرضك، ومالي ومالك، وكلنا سيصيبنا الخلل الناتج عن اختلال الأمن، فلنحرص جميعًا على أن نقف يَدًا واحدة ضد كل إنسان يريد أن يسيء إلى أمننا، وإلى استقرارنا، وإلى جماعتنا، وإلى ولاة أمورنا وعلمائنا، نسأل الله جل وعلا أن يؤمننا في دورنا، وأن يصلح ولاة أمورنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحفاظ على الأمن واجب مقدس
إن نعمة الأمن من النعم العظيمة التي أنعم الله بها علينا، فلا رخاء إلا في ظل الأمن، ولا سعادة إلا في كنف العافية، ولا يقوم سلطان الأمن ولا تثبت أركانه إلا إذا حافظ كل فرد عليه، فهو شعار المسلم وشارته، والوصف الغالب عليه، وإذا كان الأمن وحمايته واجبًا من واجبات الدولة، فهو كذلك واجب من واجبتنا نحن كأفراد، فنحن الذين ننعم به، وحَقِيق علينا أن نشارك في صيانته وحمايته؛ لأننا المنتفعون به أوَّلاً، والمستهدفون من الإضرار به، وثانيًا واجب علينا جميعًا أن نتنبه للخطط الماكرة والأعمال الإجرامية المشينة التي تزعزع أمننا واستقرارنا، وأن نعمل بكل ما أوتينا من قوة لدرئه ومحوه، وأن ينضم بعضنا إلى بعض انضمامًا مُخْلِصًا، ونكون من أنفسنا وحدة مترابطة لدرء الفساد وعوامل الإجرام، واجب علينا أن نضع أيدينا في أيدي ولاة أمرنا تعاونًا معَهم على البِرِّ والتقوى، وأن يكون كل واحد منا رجلَ أَمْنٍ، وألا نستنكف أن نبلغ عن مدبر المكائد والجرائم ولو كان ابنا لنا أو أخا أو أبا أو أقرب قريب، نسأل الله بمنه وقوته أن يحفظ هذا البلد من شر الأشرار وكيد الفجار، وأن يوفق ولاة أمرنا للقضاء على جذور الشر والفساد ومثيري الفتن، وأن يحفظ لهذا البلد دينَه وعقيدته وأمنه وقادته وعلماءه وسائر رجاله المخلصين، وأن يمدهم بعونه وتوفيقه لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد.
الإيمان أهم وسائل حفظ النفس:
إن الأمن في الأوطان والسلامة في الأبدان أكبر نعمة وأعظم مطلب تسعى إلى تحقيقه الأمم والشعوب، ويطمح إليه الأفراد والجماعات على مر العصور، فهو سبيل الدعة والطمأنينة، وطريق الرخاء والاستقرار ورغد العيش، فبه تعم البركات وتصلح الأحوال، وتهنأ الحياة، ويعيش الناس في أمن وطمأنينة وراحة بال، وهذه النعمة العظيمة تقوم على دِعامتين أساسيتين هما: الإيمان بالله تعالى والاستقامة على العمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليقترن الأمن بالإيمان، فتتم النعمة وتتجلى الكرامة، وتتحقق الحياة الهادئة، يقول جل وعلا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [سورة الأنعام: الآية 82].
إن الإيمان بالله وَحْدَه يَحْمِل كلَّ فرد في المجتمع على أن يكون عَيْنًا ساهرةً ويدًا حافظةً أمينةً ونفسًا رحيمةً مُشْفِقةً ساعيةً في اجتناب كل ما من شأنه أن يُؤذِيَ المسلمين أو يُسبِّبَ لهم الخوف في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم، فضلاً عن الاعتداء عليها؛ لأن الشرك بالله والبعد عنه سبحانه هما السبب المباشر الذي يؤدي إلى زرع الخوف في النفوس وضياع الأمن من القلوب من المجتمعات، وقد كانت حياة الجاهلية أكبر دليل على ذلك حيث الفوضى والاضطراب الذي كان يخيم على مجتمعاتهم وما يحدث فيها من الغارات على بعضهم البعض، والحروب القَبَلية التي تقوم بين القبائل ثَأْرًا لأتفه الأمور، فتمكث الأعوام العديدة، أو تقوم بقصد السلب والنهب والقتل بدون ضابط أو زاجر أو رادع، ولم يكن أَمْنٌ ولا راحة ولا اطمئنان، كانت حياة القَبَيلة في قَلَق مستمر وخوف دائم، وقد وقعت حروب مدمرة وصراعات طاحنة استمر بعضها عُقودًا من الزمن أهدرت فيها الدماء وسُلِبت فيها الأموال، وانتهكت فيها الأعراض، فجاء الإسلام بأمنه وإيمانه فأَمَّن الناس على أرواحهم وممتلكاتهم، وبَشَّرَهم المصطفى صلى الله عليه وسلم إن هم استقاموا على دعامتي الأمن – الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح – أن يتحقق لهم الأمن المنقطع النظير في دنيا الواقع، وأن يجعلهم الله خلفاء الأرض، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنًا حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، يقول جل وعلا: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [سورة النور: الآية 55]. أيها الإخوة، إن الأمن لا يقدر بثمن لِمَا يغرسه في النفوس من اطمئنان وسعادة، ولِمَا يجلبه لحياة الناس من رخاء واستقرار، وفي هذا كله ضمان للأمة من نقمتين عظيمتين: الخوف والجوع.
الإسلام دين الأمن والسلام:
أما بعد، أيها الإخوة في الله لقد جاء الإسلام دينًا قَوِيمًا وصِرَاطًا مُسْتقيمًا بنظام شاملٍ ودينٍ كامِلٍ صالحٍ لكلِّ زمانٍ ومكان حقَّق من خلاله الحياة الهادئة التي يطمح إليها الناس في كل زمان ومكان، ومن أعظم الأوامر التي جاء بها حفظ الضرورات الخمس المهمة التي أجمع الرسل والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – على حفظها، وبيان أهميتها، ووجوب رعايتها، والمحافظة عليها، وهي: حفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل. فهذه الأمور هي قِوَام حياة الناس، وبحفظها صلاح أحوال الناس، وبالتفريط فيها وإهمالها فساد الكون، واضطراب الأمور، ونشوء القلق والفوضى، والانحلال.
لقد أقام الإسلام كل الضمانات اللازمة والسبل المختلفة التي تَحْفَظ الضرورات الخمس، فرتب الوعيد الشديد والعقاب الأليم والجزاء الأكيد على كل مَن كان سببًا في ضياعها أو فقدان أي منها، وجعل توفر الأمن من أهم هذه الوسائل وتلك الضمانات الزاجرة عن الإخلال بأي من هذه المقاصد الشرعية التي يتحقق بها حفظ مصالح العباد وقيام الحياة الكريمة.
الخميس، 5 مارس 2015
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)